تخلخلت ذرات الهواء ،فتشرد السمع على تخوم الجهات :
- تراك...تراك ...تراك
الرجل مندهش، تتخطفه الارتجاجات الهوائية التي هي الآن مركز العالم،البصر والسمع والشم ممغنطة بهذه البؤرة.
بإيقاع طفولي صاخب دخلت زوجته رافعة يديها ،ولمعت في صيحتها مايشبه الضراعة :
- لقد وصلوا ...لنهرب بسرعة
كان ضخم القامة بارز الصدر ، خشن الملامح ،رجولة وهمية، انبعثت من حنجرته حشرجة كالإسهال :
- حسنا لنهرب
دون أن تجيب تسرع بروحٍ تتسع لخوفها إلى الخزانة ،تأخذ كل ما لديها من ثياب والقليل من المال ، وقد زحفت إليها أفكار جعلتها ضعيفة مثل عصفور ، تداهمها أسئلة :
- ماذا سيفعلوا بنا إن لم نرحل
لم يكن زوجها من النمط الذي يحمي زوجته،زوج بلا قلب ، تنهد تنهيدة بائسة مخنوقة من شدة الحيرة ،ثم صاح كمن وجد لقية أو خلاصا :
- أعطني صرة النقود
قذف الصرة مرتين في الهواء ثم دسها في جيبه،ابتسم :
- ستكفينا لسنتين
نهض دون أن يتكلم كلمة واحدة ، وحتى دون أن يسأل أو ينظر إلى وجهها ، وعلى الفور خرج من الباب تاركا زوجته وراءه ، التي انسحبت وراءه كقطة مريضة ،فتحت الباب ، وخطت خارجا ،في الساحة انطلق حديث ما يشبه الدوي ، قال أحدهم :
- لا مثيل لهذا الصوت ...أعلموني هل سمع أحدكم مثله من قبل
اندفع الحشد بالكلام ، فتداخلت الأصوات ، ثم عم الصمت .
- هو لغز
من جديد بدأ الجميع يتحدث معا ،تحول الصوت إلى هاجس له شكل وحدود يستشعرونه دون أن يروه ،كان الصوت يختفي تم يعاود الظهور :
- تراك...تلااك...تراك
اقترح عليهم أن يأخذوا نفسا عميقا ويحبسوا الغازات في صدورهم ، ويصيخوا السمع بشكل أدق ،فاكتشفوا أن الصوت يأتي من جهات مختلفة ، يتعقبون الصوت والصوت يتعقبهم ،بدأ يفكر في الغرايب السود ،من السهل أن يكون السوء أول ما يخطر بباللك ،أن هذا الصوت يعزف بمفرده في الفراغ الهائل،ليلتقطه مجموع معلق بأحبال الحيرة .
قال أحدهم :
- هراء
كرر الكلمة مدحرجا حرف الراء كما لو كان يريد الاستمتاع بلثغته وأردف:
- هل تريدون أن نرحل من أجل صوت
حملق فيه رجل آخر وأجابه :
- أنت على حق ..أين نذهب بأطفالنا
ساد صمت مطبق ، بيد أن رجل ثالث رد بقوة:
- حقا ...حقا ... أليس الهروب أفضل
أصغت المرأة وتخيلت أن قدمها زلت في عالم مرعب ، وأن الغرايب السود تمزق جسدها النحيل ، فصرخت وسط حيرة الجميع :
انظروا لقد وصلو ا
ركضت ، فسمعت وراءها وقع حوافر ، وأصوت تتزاحم :
- اهربو ..لقد وصلوا
رحلوا جميعا ،وبقي صوت سطل تعزف الريح على معدنه لحن الخواء:
- تراك ..تراك ...تراك
فؤاد حسن محمد _ جبلة _ سوريا
0 التعليقات:
إرسال تعليق