السرد ودرامية المشهد
في قصة(الحب الحقيقي—إحتراق)
للقاصة هند العميد
أياد النصيري—العراق-10-7-2017
كنت قد قرأت(للقاصة هند العميد)) مجموعة قصص قصيرة متنوعة، مقتطفة من عدة مواقع وصحف ومجلات إن كانت ورقية أو إكترونية وكونت فكرة عن عالمها الأدبي المتميز، فنحن نجد في قصصها متعة وسلوى، إلى جانب الفكر والثقافة وثراء المقصد. سردها غني بالرموز والإيحاءات والإسقاطات على واقع نعيش فصوله حروبا وتشردا وقلق وجود وكينونة. حب ووجع وتهجير-والأسلوب عامة واقعي يمتزج بالمتخيل، وأحيانا سريالي، لأنها تكتب بواقعية، كما في قصة/((الحب الحقيقي--إحتراق)). هي تجيد اختيار تكنيكها السردي ورموزه توظفه توظيفا موفقا لتبني مقصدها الذي تصبو إليه، لغتها السردية رشيقة العبارة مكثفة، غنية بالصور والاستعارات الجميلة والخيال المعبر.. ولن أدخل الآن في تفاصيل الأسلوب غير أن أقول للقارىء او المتلقي أن القاصة ((هند العميد))،،لديها بصمة متميزة في دنيا الأدب خاصة الأدب الملتزم.
العنوان: يعتبر عنوان النص البوابة، أو الطعم الفعال الذي يغري القارىء، بالمغامرة في ثناياه، ويجذبه للغوص في أعماق الأحداث، خصوصا وأننا في العصر الحديث، في عصر السرعة: أصبنا بعدوى قراءة العناوين نتيجة للتطور التكنولوجي والمعلوماتي، فأصبح الكل في عجلة من أمره وسادت ثقافة (صفح العناوين) في المكتبات وفي الأكشاك وفي كل مكان، كلنا في عجلة من أمرنا، كلنا نتصفح العناوين دون أن نقرأ،
وما دامت فوضى تصفح العناوين أصبحت هي السائدة كان لزاما على الكاتب عرض بضاعته في أبهى صورها من خلال الإعتناء بالعنوان، ). ونحن بصدد دراسة نص القاصة (( هند العميد ))يلزمنا التوقف على عنوانه، باعتباره الدرج الأول الذي سيسلمنا إلى داخل القصة، ( الحب الحقيقي -إحتراق-- ) ربما بمجرد ما نسمع كلمة (حب )تنفتح شهيتنا بالأحرى نتمنى أن نكون في حضرته، عنوان يغري، ويوقظ غريزة التطفل وحب المعرفة في نفس القاريء، كما يدفعه إلى طرح تساؤلات، ربما يصب بعضها في عمق محتويات النص
اللّغة في(الحب الحقيقي إحتراق) بسيطة لا حضورا بلاغيّا كثيفا يركّبها ويربك القارئ غير الوله بالتّعمّق والتّأويل، لكنّها رغم ذلك نسجت قصةكشفت وجوه الواقع ومثّلت أصدق المرايا تصويرا.
ظلال نائية صورة إبداعية اخرى تخرج بعوالمها المميزة الى معترك الابداع ، انها صورة متفردة في معالمها وألوانها ، والاطار الحداثوي الذي يؤطرها ، استطاعت القاصة ( هند العميد) ان تنأى بقصصها الى عالم يبحث دوما عما هو جديد وغير مستهلك ان نصها هذا (الحب الحقيقي--إحتراق)... جمرات ارادت له القاصة الا تفقد توهجها وبريقها في عصر تنطفئ فيه حتى الآمال كيف للحب يحترق وهو الأغنية المتفردة في الحياة
.. فيتمثل عنصر الايحاء والمفارقة في ثنايا النص التي تؤكد بها القاصة حضورها في كتابة هذا الفن الأدبي الصعب ، فقد امتازت في قصتهاهذه بلغة مكثفة موحية وفكرة مركزة) تعاملت القاصة ببراعة مع فكرة القصة ، حيث لجـأت الى تقنية التشفير فقد عمد ت الى ترميز الشخوص وبذلك تبتعد عن مشاكل القص والاستطراد السردي
نكتشف ميل القاصة الى التفرد في التعامل الذكي والدقيق مع المضمون، الأسلوب الحداثوي /اللغة الرصينة / ونسيج متماسك ، كل هذه السمات وسمات أخرى ضمتها في النص كفيلة بولادة قصة ممتعة تستحق القراءة وصوت إبداعي آخر ضمن الأصوات الإبداعية المتميزة .
إن إحتراق الحب يعني موت أسباب وجودنا وكينونتنا كأفراد، ويعني ضمنيا وقيميا تأصيل حقول كراهية الآخر، وموت السلم والتعايش والأخلاق. وهو إعلان عن حالة إفلاس مطلقة جسدتها مواقف، أبرزت تفككا في العلاقات واللامبالاة والتجاهل والصراع من أجل لا شيء. فالحب بين بطل القصة وهو عراقي يعيش داخل وطن يخوض حروب ونار وصراعات طائفيةوبين حبيبته التي تعيش في دولة عربية آخرى تفصلهما مسافات شاسعة لديها خصوصيتها وأسرارها كشفت عن انهيار صرح التعايش الإنساني، تاركة فراغا روحيا، وتفككا في البنيات والمواثيق الغليظة. والصورة التي يقدمها الحبيب عن نفسه حقيقية؛ حسب ادعاءه واحلامه وهو يتوق للسفر والعيش معها في بلدها
نص غنى باللغة والسرد والصور البلاغية.. الكاتبة استخدمت كل أدواتها الاحترافية لتضع القارىء والناقد فى حالة من الحيرة منذ الجملة الأولى الصادمة
(استوقفتها عبارةٌ قالها الخمسيني، لتبدأ رحلة أخرى من الحديث قسري الإصغاء:
((- هل قُلتَ إنَّ الناس - الآن - يمتازون عن الماضي بأنهم يُحبون بحريةٍ أكبرَ وتضحيةٍ أصدقَ؟؟!
- نعم.. ففي السابق كان الحُب وقصص الغرام تقتصر على أبيات قصائد الغزل أو لقطات فيلم يُعرض على شاشات دور السينما.
قالت وهي ترفعُ حاجبيها بتركيز يمتزج بدهشة من كلام الخمسيني))
نحن أمام نص خبيرة متمكنة من لغه غير تقليدية في عرض الحدث تتسم في شاعرية بالتعريض دون التصريح
فنجدها تخبرنا ان هناك جمهرة من الناس ينتظرون الركوب الى الباص المتجه نحوى المجهول-- شخوص عديدة متفاوتة اعمارهم لعل كل واحد منهم يحظى بمقعد مريح-إمرأة عجوز حظيت بمقعد محجوز لها سلفا من أحد الشباب-- رجل خمسيني يجلس بجانبها متأملا الوجوه-- وهو يتحدث عن حب حقيقي في روحه---هذا الرجل كما صورته القاصة انه عراقي --من خلال السرد والحدث الي تناولته في المفهوم والاستفهام والحوار-- بداية على لسان البطل رغم فارق السن بينه وبين تلك المرأة العجوزبأسلوب بسيط في جملة استخدمها كافتتاحية للنص. المتألمه هي واقع الأزمة التي يعيشها العقل العربي متمثلاً في ضيق نظرته إلى الآخر النافي للحرية المصادر لكل شيء
أنه يحب امرأة عربية تعيش في دولة عربية آخرى-ويتوق للسفر اليها والعيش معها بسلام--رغم محاولاته الغير مجدية بإقناعها للعيش معه في وطنه—رغم ان الحب تضحية في بعض الحالات وعلى حبيبته أن تقدم تضحية لأجل ديمومة الحب الحقيقي .
تفتت(هند العميد) ( المحسوسات إلى عناصرها الأولية محاولة إقتحامها وإعادة تشكيلها من جديد ، حتى نظن أن القاصة قد امتلكت فهم العالم ثم نراها عبر تفصيلات كثيرة تتخلى طواعية عن هذا المعتقد لأنها لا تمتلك الحقيقة المطلقة ، ولا يمكن لتلك اللغة التي أسرتها أن تكشف ستر العالم ، لكنها توالي تعرية العناصر الأولى ثم ترجها رجا ، فإذا الدنيا أكثر عتمة وغموضا
هناك حتمية أن تؤدي الشروط التي تعيشها القاصةفي واقعها إلى نفس الضغوط التي يستشعرها بطلها ، فيكون الفزع ، والوحدة ، والتعب ، ولا يمكن أن نتخيل حياة تمس الحلم بعيدا عن الزمان و المكان ، وهو ما يعني أن الرجل العراقي المحب في حبه الحقيقي في كل أحواله يسعى إلى تخلص حلمه من هذا الانهيار المتوقع / التصدع الذي يغشى النفس ، ويحيط بروحه
ولنتأمل المرأة العجوزتروي وتسمع عن طريق المشافهة ، وهي ما زالت تعيش تلك الحالة قابلة للتحقق مع جيل جديد أسقط حنينه إلى التراث ، ولا يزورها إلا متوجسا أن يسكن روحها فيزلزل قناعاتها .(( يا ولدي! قديماً كان الحُب احتراماً وتضحية. فكم من امرأة مُدللة عند أهلِها تجرّعتْ المُرَّ والويل لأجلِ زوجها، وكم من فارس ترجّلَ عن مُهرته طلباً للقمة عيشٍ كريمة لأهلهِ))
نجد الكاتبة وفيّة لأنواع الحوار في الكتابة القصصيّة لكنّها وظّفتها توظيفا مخصوصا خرجت بها من وظيفتها التقليديّة المتمثّلة في نقل الأقوال لإضفاء الحيويّة على السّرد
لم تستغن عنها الكاتبة في متن النص وإن وظّفته لغيره مجرّد سرد الأقوال بل جعلته من الأدوات السّاردة للأحداث حيث حمّلته مسؤوليّة تقديم الاسترجاع في الحكاية، استرجاعا يجلو الغموض عن الأحداث اللّاحقة
بالعُتمة والحواسّ تتشكّل مشهديّة السّرد
((- وفي أي أرضٍ غُرِسَتْ وردتك؟
أجابها بابتسامة عريضة:
- في (احدى الدول العربية)
ينبني نصّ (الحب الحقيقي --إحتراق)على الغموض والتّكثيف انطلاقا من العنونة حتّى ما قبل الجملة الأخيرة فيه..( إذن أين تضحيتها في حبها لكَ، وقد رفضتْ الاحتراق معكَ في أرضك؟)
هو تعتيم يُحدث التّشويق في القصّ شدّا لانتباه القارئ وحرصا على التّركيز الشّديد أثناء القراءة توقا إلى استجلاء المعاني المتزاحمة في النّصّ سطحا وعمقا.
ذلك أنّ الغموض قد شمل ركائز السّرد في النّصّ:
*الشّخصيّات: لا أسماء تحمل ولا هويّات إذ نجد فقط ما يلي:
_ هو، إليه أسندت كلّ الأفعال تقريبا وعليه سلّطت كامرا الوصف.
_ سيّدة في عقدها الثاني أو أكثر بقليل وقد أضفت ابتسامة على وجهها لمسة فنية، تحضر فقط عبر صورة لها، فلا أحداث أسندتها القاصة إليها ولا علاقات
رسم بينها وبين بقيّة الشّخصيّات.
هي—ضمير غائب-وهي المرأة الحبيبة
قل الوصف , وكثر الجدل وتعددت الرؤى ووجهات النظر ووجدت التبادلات السردية بين القوى المتصارعة فتميز العرض فى القصة للقضايا بمؤهلات فنية حيوية أذابت البطولة الفردية ووجهة النظر الاحادية لتحتل وجهات النظر مكانها فترسم الواقع المعاد بطرح فني يزاوج بين المرجعية التاريخي0 .
وختاما:
نقول على لسان الناقد وكاتب القصة الإيرلندي فرانك أوكسفورد في كتابه” الصوت المنفرد” متحدثا عن خصائص القصة القصيرة ا
“ليست القصة القصيرة، قصيرة لأنها صغيرة الحجم؛ وإنما هي كذلك لأنها عولجت علاجا خاص))
استطاعت القاصة (هند العميد) أن تتناول موضوعها على أساس موقف آمنت به، وحاولت تمريره، مستعملة تقنية تفجير طاقات الموقف الواحد بالتركيز على بواطن الشخصية.
فالذي يلج عالم هذه القصة، يتاح له أن ينظر من مختلف الزوايا فهو نص مفتوح؛ بعيد عن التعتيم والإبهام. .
(النص)
الحُب الحقيقيُ احتراقٌ
في صباح يُجبرُ على التفاؤل به لقلّة الخيارات، قاصدون لمقاصدَ مُتباينةٍ، يقفون عند نُقطةِ انتظارٍ واحدةٍ، عيونهم مُتسمّرة تكاد تفك شفْرةَ السرابِ للتأكّد من قدوم الباص أو عدمه. لا يحتاج من في آخر الصف إلى الاستفهام عن قدومه، فهرولة المنتظرين والتزاحم كفيلان بأنْ يُعلمان الضرير بما يحدث.
امرأةٌ عجوز يكاد الجميع يحسدها، حتى تلك العشرينية التي تستغرق ساعات من الوقت لترتيب زينتها، لكون احترام الكبير شيئاً لا يُنكرُ في مجتمعاتنا الشرقية، لذا سيكون مقعدها محجوزاً سلفاً.
وبعد غربلة الموقف وصعود عدد من المُحاربينَ إلى داخل الباص، اكتفى الكثير منهم بالوقوف على أمل أنْ ينالوا نصيباً مما نالتهُ الجدّةُ من أحد الشباب، حين منحها مكانهُ ممتناً لعنفوان شبابه، لتبدأ بإزعاج رجلٍ خمسيني جالس بجانب مقعدها، حين أقحمتْ رأسهُ بتفاصيلَ لماضيِ أجيالٍ قد أكل الزمان عليها وشرب، حتى استوقفتها عبارةٌ قالها الخمسيني، لتبدأ رحلة أخرى من الحديث قسري الإصغاء:
- هل قُلتَ إنَّ الناس - الآن - يمتازون عن الماضي بأنهم يُحبون بحريةٍ أكبرَ وتضحيةٍ أصدقَ؟؟!
- نعم.. ففي السابق كان الحُب وقصص الغرام تقتصر على أبيات قصائد الغزل أو لقطات فيلم يُعرض على شاشات دور السينما.
قالت وهي ترفعُ حاجبيها بتركيز يمتزج بدهشة من كلام الخمسيني:
- والآن؟؟
- الآن أصبح الحُب سبباً عميقاً لإيجاد العذر لمن يتخبّط في حياتهِ تائهاً باحثاً عن سبيل ليجتمع بمن أحبه وللتضحية بالغالي والنفيس من أجله.
- يا ولدي! قديماً كان الحُب احتراماً وتضحية. فكم من امرأة مُدللة عند أهلِها تجرّعتْ المُرَّ والويل لأجلِ زوجها، وكم من فارس ترجّلَ عن مُهرته طلباً للقمة عيشٍ كريمة لأهلهِ.
ابتسم الخمسيني من مُقارنات الجدّة، وكأنَّ الفارقَ بينهما مائة عام من التفكير والقناعة، ثم راح يتبجّح متفاخراً بحب حياتهِ - كما اسماها - حين قال:
- وأنا لدي تلكَ المُحبِّةُ التي تعشقُني بجنون، والتي ينقطع توالي نفسُها إنْ غبتُ عنها، لذلكَ سأُسافرُ إليها لنبدأ حياتنا سويةً ولنكمل ما فاتنا من عمرينا.
- هل قلتَ: أُسافر؟!
عقدتْ حاجبيها مُستفهمةً:
- وفي أي أرضٍ غُرِسَتْ وردتك؟
أجابها بابتسامة عريضة:
- في (احدى الدول العربية).
ثم استأنف قائلاً:
- أرضُ العراق محرقةٌ - كما تعلمين - وحبيبتي تخاف العيش فيها لذا سأحلِّقُ بجناحَي العشقِ إليها.
قالت وهي مُندهشة من تخطي قطار عمره محطات الحكمة من دون أنْ ينال منها نصيباً:
- أوليس الحبُ والعشقُ تضحيةً؟!
قال وبانتشاء مفضوح:
- بلى..إنه كذلك.
استأنفتْ باستفهام:
- إذن أين تضحيتها في حبها لكَ، وقد رفضتْ الاحتراق معكَ في أرضك؟!!
0 التعليقات:
إرسال تعليق