الثلاثاء، 22 أغسطس 2017

فؤاد حسن محمد الخفاش***قصة قصيرة


الخفاش : قصة قصيرة
(لابد من توفر حسن النوايا عندما نقرأ هذه القصة )
آه ...أجل للمرة الثانية التي تراود الفكرة ذهن البغل ترودي :
_ لا أحد يصبح عظيما في بلده
كان اهل القرية يلقبونه بالبغل ، ويضربون المثل فيه فيقولون فكهين ساخرين :
_ أغبى من ترودي
وسبب تسميته ترودي مجهول ، لكن هذا لا يهم فالاسم هو لمجرد تمييزه عن باقي الأقران،هذه الفكرة الشاحبة كانت تثير فيه عواطف مختلفة ، فهو دائما معلق بحلم مائل أن يصبح عظيما ، يوقظ في أعماقه تمنيات واحدة تلو الواحدة ، تنتزعه من بغوليته كما ينتزع نسيم المساء عطر الزهور.
من هذا الحلم الوردي تنبثق حقاْ نفحة سلوكه ، إلا ما كان يزداد به شعورا ويسبب له الشقاء ، عندما لا يبقى ثمة شيء يفعله ، وهذا يرمز له لنهاية كل شيء بالنسبة له ، عندئذ ينتابه شعور يستحيل أن يصبح عظيماْ ، كما يستحيل أن تبقى قطرة الماء كروية عندما تسقط على الأرض .
ربما كان في السابعة من عمره ، كان فتى صغير ، يرتدى جلبابا سماويا اشتراه له أبوه من سوق القامشلي ، مازال يذكر دلك حتى الآن ، عنما اتكأ على حجر في فناء الحوش ، وخطرت في فراغ رأسه تلك الفكرة ، كان يجلس بالقرب من والده وينظر إلى السماء ، يراقب الخفافيش تقبل وتدبر كالأشباح في هالة ضوء القمر وتسقط فجأة في الظلمة ، وحين تتلاشى تماما يسود تفكيره ارتباك مجهول ، ويشعر قلبه بكثير من الهدوء حين تعود الخفافيش من جديد ، كان هذا المنظر في الصيف اشد فتنه ، وعندئذ تبدو تلك الفكرة براقة بصورة خاصة ، لكأنها تلك الكائنات الشيطانية هي من أوحت إليه بذلك .
كان يحب المضي إلى المسجد ، فقد كان لديه انطباع دائم أن الجامع ملئ بالانشراح، على حين أنه في الواقع خالي منها ،لعل هذا الانطباع من الجمع بين الانشراح والمسجد ، قد انبثق من فكرة الجمع بين العظمة والخفاش ، فكان يمضي إلى المسجد كلما أتيحت له الفرصة ، ولعل حبه الشديد للمسجد هو الذي يجعله يتذكر الخفاش.
ذات يوم ذهب إلى صلاة الجمعة ،ربما كان قد بلغ العشرون من العمر ، الجميع هنا ، يصغون باستمتاع إلى الإمام ،هو رجل مبارك لا تطأ قدمه الأرض قبل ان يكبر لله ولا يخطو خطوة دون بسم الله ، كل كلماته حكم ومواعظ ، يعطيها وقع في النفس لحيته التي أطالها حتى لامست شعر عانته ، حليق الشارب ، يرتدى نصف دشداشة رثة ، ويضع على رأسه خرقة بيضاء متسخة ، هذا كله من شدة الزهد في الدنيا والتقوى بالإيمان .
بعد أن أنهى خطبته أشار إلى ترودي بإصبع أن اقترب ، اندهش ترودي من دعوة الشيخ ، وقدم نحوه راكضا ، بينما تجمهر بعض المصلين يتدافعون عند مدخل المسجد ، وينصتون بإصغاء مادين رقابهم نحو الشيخ ، كانوا متجهمين للغاية ، والجميع يفكر ، وكل على طريقته ،وهم منشغلون على معرفة ماذا يريد الشيخ من البغل ترودي ، والبعض القليل منهم يعتقد انه لا يجوز سماع ذلك ، وكانوا يفعلون ذلك على طيب خاطر .
خاطب الشيخ ترودي بكل احترام وهدوء :
_ أيها الطيب ترودي عليّ أن أقول لك شيئاْ
هز ترودي برأسه مفسحاْ المجال للشيخ أن يتابع حديثه :
_ علي ّ أن أقول لك بضع كلمات ، ولكن يصعب لفظها ، أيها الحبيب ترودي ، اذا قارنا الانسان بالحيوان فلم تجد تلك الفروق الشاسعة بينهم ، فالكل متوحش ، ويحب آكل اللحوم ، وإن كنت تريد أن تكون عظيما لابد أن تكون مما يقتلون ويأكلون لحوم ضحيتهم
في بداية الحديث ابتسم ترودي ابتسامة خفيفة ، لكن نظرته أصبحت أكثر حدة وقساوة ، وهاهو الان يتجهم تدريجيا حتى أصبح وجهه اسود.لكأن الخفاش النائم في داخله استيقظ ، ففتح عينيه مندهشا واخذ يبتسم بانشراح ، وهز رأسه موافقا ، وهو يسأله بغباء:
_ هل يجوز أكل لحوم البشر ؟
_ تريد ان تقول هذا الشيء غير صحيح ؟ نعم كل العظماء يأكلون لحم البشر
أدرك ترودي الآن لماذا ينظر إليه الأطفال بتلك العيون الخائفة ،نهض من مكانه بسرعة ، ولكن ذلك الهيكل الآدمي قد هرب الإنسان من داخله ولم يبقى له أي اثر ، أصبح الآن عضوا من أعضاء هذه العصابة ، التي تأكل لحم البشر ، ويخافون في الوقت نفسه أن يأكلهم احد ما .
هنا في الجامع علم أحد أسرار العظمة ، والأسرار أثقال حقيقية فوق الجسم ،تصبب العرق من وجهه بغزاره ، ساء وضعه ،لكنه مصمم -مهما كلفه الأمر من ثمن ، مصمم أن يسمع أفواه الناس تهتف بذل:
- ترودي العظيم
هذه الفكرة بعثت فيه النشوة ، أنها المخرج الوحيد ، كان متكأْ على حجر في الحوش ، في السماء الهلال الربيعي يسكب ضؤه الخافت على الأرضية الترابية ، في الحوش نسمة خفيفة منعشة ، كل شيء لذيذ ، كل شيء يهوم فاترا، قرب الهلال كانت نجمة جنيّة تبتسم له ،تحت الهلال وفوق شجرة الصفصاف تقبل الخفافيش وتدبر كالأشباح ، تلك المخلوقات الخارقة هي أمله كلما فكر .
في الصباح التالي وقبل أن تبزغ الشمس وتفتح الأبواب ، كانت أم ترودي تبكي ، يا له من منظر مرعب وكئيب وحزين ، الأخت انتزع كبدها بعد أن قتلت ، كانت الأم تبكي بصمت ، وترودي يحاول اقناعاها أن تكف عن البكاء، دموع الأم كانت تثير في داخله شيئا من تأنيب الضمير ، لكن لماذا فعل ذلك مادام عنه شيء من الضمير ؟
الأخ أكل لحم أخته ، الأم نعرف ذلك لكنها لم تقل شيئا ، وكانت تكتفي بالبكاء ، ربما كانت تعتقد انه لا يجوز فعل إلا هذا.
فؤاد حسن محمد- جبلة سوريا

0 التعليقات:

إرسال تعليق