والغاية من اقتصار قراءتي على عتبة هذا النص ( البانورامي )، هي الرغبة في تمكين القارئ من امتلاك مفاتيح تأويلية تساعده على فك مغاليق النص و فهمه وصولاً للتعرف على غائيته المعنوية وقصديته المضمونية ، بجهوده الذاتية :
العتبة النصية( عيناها و الليل ) مركبة من اشارتين مترابطتين ببعضهما تشاركياً وفق حرف العطف / الواو، وهما متعددتا الدلالة ، كما يوضح تشريحها التالي :
ــ عيناها : عينا / مثنى عين ، وهي دالة ملولها اللغوي : الحاسة المعروفة / ولها مدلولات اصطلاحية كالرقيب ، الجاسوس ، الرعاية والاهتمام ..الخ
وهذه الاشارة اكتسبت تعريفها بإضافتها الى ضمير غائبةٍ / ها .
اما الاشارة العتبية الثانية فدلالاتها لاتخرج لغةً او اصطلاحاً عن المعاني التالية :
ــ الليل : العتمة ، الظلام الحاجب للرؤية / رمزالخوف ومرادفاته و العزلة ومرادفاتها
والرمز الاشهر للظلم باشكاله / و دلالته الاقوى : الجهل والتخلف بشتى صورهما كونها منتجة لباقي الدلالات المذكورة وغيرها فمثلاً :
التخلف يعني غياب الوعي وهذا يؤدي الى ( التسليم والطاعة )
/ الخضوع لارادة ومشيئة الاخر الممتلك اسباب القوة (السلطة بانواعها ) والرضوخ لرغباته وتلبية أوامره / وهذا السلوك يكافئ الظلم والاستعباد ...الخ
نخلص الى ان الليل اشارة في مجملها سلبية المعاني ، سوداوية الايحاء و
الرمزية ، تبعث على النفور والشجب ( اسقطت من حسابات معاني هذه الاشارة
تلك الايحاءات او الدلالات / النسبية المعاني ، الفردية باسقاطاتها النفسية ( كإرتباطه شعوريا / لاشعوريا ، في اعماق وجدان فرد / شريحة ( عاشق مثلا ) بلقاء الحبيب او التواصل معه ، وماشابه ) ، لذا وبحكم اشتراطات ( واو العطف ) التشاركية بين ركتيَ العطف ، فان معنى ( الرقيب ) كدلالة معنوية للعين ( المعطوف ) ، هو
الانسب لتحقيق مشاركتها مع دلالة الظلم ( نتاج التخلف والجهل ) للاشارة الليل ( المعطوف عليه ) في موضوعة ( الشمولية السلطوية ) ، فالرقيب هنا هو عين السلطة الظالمة .
والملاحق بتنصته وتجسسه ، كل همسة او حرف او ايماءة تبدر او تصدر عن قصد او غير قصد عن الجمهور قد تنم عن تململها او اعتراضها ، على تلك السلطة ، واحكامها الجائرة ، وبهذا فان الضمير / ها ، الذي اعطى التعريف للرقيب / عينا ـ النكرة ، كما اسلفت ، يعود على تلك السلطة الليلية الاشارة ، التي حددت هويته كتابع يستمد معناه من انتمائه / اضافته ، اليها .
وبذا تكون المقاربة المعنوية للعتبة / عيناها والليل :
رقيب السلطة و الظلم
وبتحليل البنية النحوية لها ( العتبة ) وتحديدا البنية الاعرابية نجد ان
عيناها اما : مبتدأ معطوف ، و/ والليل : عاطف ومعطوف عليه
و الخبر محذوف جوازاً ( بقصدية دلالية ) ، يمكن تقديره ( وفق مفهوم المشاركة المار ذكره ) بـ : متماهيان او متأزران فتكون العتبة :
عيناها والليل متماهيان / متآزران
أو هي : خبر مقدم جوازاً ( قصداً ) ، والليل : ذات الاعراب اعلاه
المبتدأ محذوف جوازاً ( قصداً ) يمكن تقديره بنفس التقدير / متماهيان
فتكون العتبة : متماهيان عيناها والليل
تحياتي
ـــــــــــــــــــــــــــــــ/ باسم الفضلي ـ العراق
نص الشاعر الرائع الفياض :
**********************·
عيْناها واللّيْل
ليلٌ
فقَدَ في عيونِ التُّعساءِ فجرَه . . .
لا يستحييَ لظلامِهِ أنْ يتعرّى
جمراً
يقطّرُني على جليدِ صَبْر
صفقةً
لا تُرَد . . .
لا فرقَ بينَ غالبٍ ومغلوب . . .
أرقاً
تشتتُهُ الوسادةُ
فتلمُّهُ أصابعُ الظّلام . . .
. . . . .
انفتلَ شيطانُ الشّعرِ عن تيْهِ غُوايتِه . . .
ما تركَهُ
لا يبني بيتَ غزلٍ
ينعشُ ذابلاً في عروقِ امرأة . . .
انصرفتُ
لأرى أنّي مُدمَجٌ
فلا خلاصَ لنهرٍ من ضَفاف . . .
. . . . .
أيَّتُها المُتسربلةُ بثيابِ الشّرق . . .
لا تزوري نوافذي
اغلقتُها بلوحٍ سومريّ . . .
على شمعةٍ من ظلام
أقرأُ زَمَني المُتآكل . . .
النّواسيّ
يسكبُ ليلَهُ بكأسٍ
يضاجعُ فيهِ غانياتِ قصائدِه . . .
بساخنِ استفهامٍ
يشوي به وجهَ النّظّام *. . .
لكنّ ليلي صريعٌ بقدَحِ ماءٍ بارد
تُثملُهُ قافيةٌ عاريةٌ
يطاردُها ابنُ مردان** بنَزَقِ شيخٍ في صباه
يتّقدُ عندَهُ رمادٌ مفجوع
ربَما هي لحظةٌ
استنسختْ كُلَّ السنين
لا همَّ أنْ يأتيَ غدُهُا بلا عينيْن !
. . . . .
مرساي
جنةٌ بلا أبواب
تحملُني كفُّ سندباد . . .
ليسَ لي من بقعةٍ أُخرى
أُبعثرُ روحي حروفاً
أجمعُها كحلاً لعينيْها
لعلَّ مرودَها يثيبُ رحلتي الطّويلة . . .
مُتعباً
ألقى أوديسيوسُ بقاياه
ما كانَ غيرُ هواها مجدافاً لشاطئ
هيَ فيه . . .
. . . . .
أيُّها الباكي على بقايا طَلَل
أدركتُ ليلَكَ
كيفَ يمتدُّ بداخلِكَ بحراً
تُفصّلُهُ ما يُخْفيكَ . . .
تنسلُّ لمُطفلٍ
يلهو رضيعُها بتمائمِه . . .
لكنَّ ليْلي إخشيديّ
لا فرارَ من سوادِه
أتقطّعُ فيهِ بين عبسٍ وذُبيان . . .
لا عاصمَ غيرُ حَبْلٍ
شدّني لأوروك . . .
شدّكَ ليَذبُل . . .
سبقتُكَ على ظهرِ سفينة . . .
وجئتَ بعدي بمنجردٍ
ليومٍ لا صحوَ فيه . . .
. . . . .
إيهٍ
أُوديب
اشتريتَ ليلاً بدونِ آخر . . .
دفنْتَ كُلَّ ألوانِ القَزحِ بقبرٍ واحد
بصقتَ على ما كانَ لكَ فيهِ عرش . . .
دُميْتَ . . .
الجروحُ لا تنام
قد تستغفلُها شاردة
لكنَّها
تتعافى
كُلّما ذُكِرتْ . . .
تنزفُ
حينَ تُوقظُ أمسَها آهةٌ مُتمرّدة . . .
دوْنَكَ ليلاً
يسقيني مما لبرومثيوس أوصتْ به الآلهةُ . . .
. . . . .
ماذا أدعوني بعد ؟
وأنا لا أمنعُها دمعةً أنْ تراها عيون . . .
أتنفسُكِ حياةً في قبضةِ جلّاد . . .
شعراً
يبري جَلَدَ مَنْ أثقلَ عليهِ خاتمةُ أمرِه . . .
أتلاشى في موجةٍ غضوب
غريقاً
بعينيْهِ
تجمُلُ كثبانٌ
تستعطفُ صفعَ الرّيح . . .
فهلاّ تنفّسَ ليْلي عن خيْطٍ أبيض !
. . . . .
ماذا ؟
قلقٌ أوسعُ من خوف . . .
إنْ تسبقنَي حقائبُ السّفر . . .
لاشكّ
أنّي مُسافر
أتعبَني السّفرُ في داخلي إليك . . .
أنشطرُ . . .
أتكوّرُ . . .
أنبعجُ . . .
في كُلِّ الأحوالِ
لا أكونُ أنا !!
. . . . .
واهاً
أيُّها الملتَصقُ بفجرِ الطّين
أرأيتَ ظلّكَ الممشوقَ على قِباءِ الكوْن ؟
ما لقلبِكَ أذْ أمسى زورقاً صغيراً
ينوءُ بعينيْن ناعستيْن من أوروك ؟
أنتَ مُصابٌ بداءٍ
لا تعرفُهُ إلآ مَنْ هيَ هوَ !
. . . . .
قفْ أيُّها القدرُ
إنَّك في حضرةِ مجنونٍ
يرى موتَهُ رشفةَ شاي . . .
ويحَ
النّوارسُ عن شواطئِها بعيداً
تموت . . .
استجارَ توبةُ*** من قلبهِ بقبرِه . . .
لم أطرقْ بابَ ابنِ المُلوّحِ
فقدْ وجدتْهُ مفتوحاً !
. . . . .
عبد الجبار الفياض
تشرين ثان / ١٧
* هو إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام البصري، وُلد في البصرة، عام 160هـ تتلمذ في الاعتزال على يد أبي الهذيل العلّاف، ثم انفرد عنه وكوّن له مذهباً خاصاً (النظّامية)، وكان أستاذ الجاحظ. وهو الذي يخاطبه ابو نواس في همزيته الرائعة :
فقل لمن يدعي في العلمِ فلسفةً
حفظتَ شيئاً وغابتْ عنك أشياءُ
** هوالشاعر العراقي المعروف حسين مردان المشهور بديوانه (قصائد عارية) .
*** صاحب ليلى الأخيلية .
0 التعليقات:
إرسال تعليق