ـ دراسة تحليلية لنص ( مطامير ) للشاعر مهدي سهم الربيعي ـ
يمكن للعتبة ، ان تفتح المكنون النصي الداخلي ، وتؤشر بَوصلياً ، الى المسالك القرائية ، التي يمكن الركون الى سلامة تأويليتها لدلالاته ومقاصده ، لذا فهي نمامة ، تشي بأسرار النص ، مهما شفَّر الكاتب مرسلاتها ، و أوغل في انزياحيتها ، أو أسراف في انغلاقيتها ، فالعتبة منظومة سيميائية تواصلية و دلالية، مهما ألبسها الشاعر اشكال الاصولية او الحداثة ، أو غايَر ببنتها الاسلويبة ، تبقى ملتصقة بشغاف النص ، وهي ( كنصٍ موازٍ كما يذهب معظم المعنيين بالدراسات النصية ) منساقة وراء ذاتيته التعبيرية ، و اخلاقياته الكتابية ، ووفق معاييره الذوقية وقياساته الجمالية ، المرتكزة على انتمائيته أو لاانتمائيته ، الفكرية / الثفافية ، لمؤسسة ايديولوجية معينة،
ونص ( مطامير ) للشاعر مهدي سهم ، ذو لغة قلقة ، معترضة ، محتجة على كل ماهو خارج المعنى الإنساني ، ومبرراته الوجودية ، لغته اختارت لنفسها كل ما ينزع بها للحكمة ( بمعناها المعرفي الخاص بالشاعر ) ، و أصولية المعاصرة ( بمعنى ان معاصرته غير تغريبية ) ، فلا انسياق وراء زائف التجديد ، ولاإنقطاعية تامة عن الجذور ، تعتمد في بنيويتها الاسلوبية تقنيات ( الصورة ، الترميز ، الإيحاء ، الانزياح ،المقاربة والتكثيف ) لتُشكِّلَ خطابها المتعدد المقاصد و المعاني ، وتوليدها للدلالات والمرسلات ، بقصدية الوصول الى تحديد المعنى الكلي للنص ، ونص بهذه السيميائية الدلالية المتعددة ، يجب ألّا تكون بنية المدخل اليه ( عتبته )، متعدد الايحائات ، مختلفة الاشارات ، كي لاتفقد صفتها المفتاحية ، وتتحول الى ( نص تضادي مضلل ) للقاريء ،
وفي دراستي هذه سأشرِّح عتبة النص ( مطامير ) ، لنتعرف على سيميائيتها الدلالية ، وبنيتها الاشاراتية ، وتوظيف ما نحصل عليه من محدِّداتٍ قصدية ، في تعميق قراءتنا التأويلية لبُنية النص اللغوية ومعانيه المضمونبة ، لتحقيق الفهم المطلوب لمعانيه الفرعية ، ومن ثم مشاركة الكاتب في انتاج معناه النهائي .
المطامير لغةً : جمع مطمورة ، وهي مكان تحت الارض ( حفرة او قبر )، لطمر ـ دفن ـ الاشياء ، والدفن ( ملء الحفرة بالتراب حتى بغطيها تماماً ولايترك فيها أيةَ فجوة او فراغ ) ، هو مايعطي للحفرة موقعها التحت ارضي ، وبدونه تبقى الحفرة مجرد مكان عبثي الملامح ( منخفِض ) عن مستوى سطح الارض لاأكثر .
ومن معاني المطمورة الإصطلاحية : السجن ، وهو مكان محدد الملامح ( له طول وعرض وارتفاع ، معلومة القياسات ) فوق ارضي ، لتغييب / نفي الاحياء فهو بهذا متقاطع ، وصفاً و موضعاً ، مع المكان الاول
نحن هنا اذاً امام دلالة مُربِكة مركَّبة من دال واحد بمدلولين متضادَي المعنى ، ولما كان نص ( مطامير ) من النصوص الهادفة ، لما يحمله من رسالة ( فكرية / موقفاتية ) معترضة ومتمردة على ( الآخر ) المؤسساتي السلطة ، ( كما سيتضح ذلك لنا من خلال هذه الدراسة ) ، فهو لابدَّ أن يكون ذا خطابٍ متين في بنيته الدلالية ، كي يضمن ايصال ( معنى / مضمون ) رسالته للفاريء ، بلا ضبابية شيفراتية ، أو تشتتية اشاراتية ، ومتانة البنية هذه تتطلب سيرورة حدَثية متصاعدة ،تنطلق من نقطلة الشروع ( أ ) ، لتحطَّ في نقطة الرسو ( ي ) على ضفاف المعنى النهائي للنص ، المطلوب تشكُّله في وعي المتلقي ، لذا يتحتم نفي وإزاحة احد مدلولّي ذالك الدال ( مطامير ) ، لتأمين تلك النقطة الشروعية ، مما يمثل مدخلاً قرائياً تقاربياً ، لمجمل مفاصل النص ، وهنا تتجلى قدرة وتمكنية الشاعر من ادواته التعبيرية ، لتحقيق هذا الهدف ، وشاعرنا أكد قدرته هذه ، في مطلع النص ( يمكن عَدُّ المطلع من مكملات مفهوم العتبة ) فهو يقول :
فراغٌ كثيف
هنا اشارة مركبه ( صفة + موصوف ) إزاحيًّةُ الدلالة كما يبدو ، ، فهي ازاحت المدلولَ اللغوي ( القبر ) ، وأكدت الآخر الاصطلاحي ( السجن ) ، فالمقابر / التحت ارضية المكان ، يملأها التراب تماماً ، كما اسلفتُ ، ولايترك فيها ايةَ فجوة فضائية ( فراغاً / خُلُواً ) مهما كانت ضئيلة ، فكيف ان كان الفراغ ( كثيف ) ؟ ، أما السجن / الفوق ارضيّ المكان ، فيتجسد فيه الفراغ بمعنَييه المادي ( مهما اكتظ السجن بالسجناء تبقى فيه فضاءات شاغرة / خُلوٌّ مكاني ) ، والحسي ( خُلوَّهُ من اثر أحبة السجين العاطفي ) بعزله عنهم وراء قضبانه ، هذا ما افضت اليه القراءة اللغوية الاصولية ( المعجمية) لتلك العتبة، لكن .. لما كانت اللغة الشعرية ، ولاسيما الحداثوبة ، لغة تقفز فوق المعاني المعجمية ، بل يتلاعب الشاعر بها خدمة لغرضه الدلالي ، فيلجأ للترميز والإختزال والتكثيف وغيرها من الادوات التعبيرية ، ( كما هو الحال في لغة هذه النص كما اسلفت ) ، لذا علينا اخذ هذه ( الاسلوبية اللغوية ) ، في نظر اعتبارنا هنا ، فنقول :
ان ( فراغ ) هنا ، اشارة رمزية دالة على الخلو المكاني ، من الأثر الحياتي بمفهومها المادي / البايولوجي ، لا بمعناها القِيَمي والفكري ( فهذان نتاجا وعي محسوسان ) ، والسجن اشارة دلالتها : تغييب الفعل الحياتي الممارساتي الحر ، وتفكيك دلالة هذه الاشارة ، ومن ثم إعادة تجميعها تأويلياً يكون : [ تغيب / نفي ، الفعل الحياتي الكيفي للسجين + موت أثره الوجودي الفاعل = قبور الأحياء ] ، و ، لكنْ .. كلاهما ( القبر ، السجن ) يعجز عن تغييبَ الوعي الحر لأصحاب تلك الاجساد الميتة ، لأنه متجدد الحياة ، من خلال ديمومة ما انتجه من افكار ، في عقول الاخرين ، لهذا علينا البحث عن دلالة اخرى للمطمورة ، تكون مقاربتها المعنوية مكافئة لتغييب الوعي ، لذا سنقوم بتفكيك شيفرة ( السجن ) الدلالية ، للحصول على اشارات اكثر فهمية لتلك العتبة ، تمكننا من تعرف صدقية( مفتاحيتها ) للنص ، وهذا سيساعدنا على فتح مغاليق سيميائيته البنيوية ، و تشريح تركيبته الرمزية وقصديتها ، وهو ما سيوفر لنا الادوات القرائية المناسبة ، للتفاعل التأويلي مع مضامين النص ، ومرسلاته الخطابية بصورة اكثر شمولية وعمق ، وصولاً لمعرفة غائيته الخطابية ، والمشاركة في انتاج معناه الكلي :
السجن : ( دال) مؤسساتي سلطوي متحوِّل ناقص اشاراتياً ، مدلوله : مكان سالب للحرية، سالب للزمن ( مدة الحكم القضائي ) ، ومقاربته الدلالية : التضادية الحياتية بين من هو داخل / خارج اسواره ( الحياة فعل زمكاني متعدد الاشارات ، منها الحياة الفكرية و النفسية ) ، وهو مؤسساتي سلطوي ، لان هذه المؤسسات هي من اوجدته / انتجته ، لتغييب من تجرّمه / ( وفق قياساتهاوضوايطها النسبية للصالح / طالح ، من الافعال والافكار ) من الحياة العامة ، واداة تنفيذ ذلك التغيب هو ( السجان / الرقيب القامع ) ، وهو متحول ، بمعنى انه يتحول الى مدلوله وهذا يصبح داله ( مثلا : سلب الحرية بانواعها ، ومنها الفكرية ، تعني سجن / منفى ) ، وناقص الاشارة لأن دلالته لاتكتمل الا بوجود اخر ( السجين / المنفي ) ، فبدونه يغدو محض مكان كسائر الامكنة الباقية .
واذا اعدنا تأويلياً ، تركيب ما قككناه تغدو دلالة العتبة : السجن اشارة لتغييب دائمي أو مؤقت ( نفي ) ، للوعي ، لتضادية فعله ( افكاره ) مع ( مسموحات / ممنوعات ) مؤسسة ( آيديولوجية سياسية ، دينية ، ..الخ ) سلطوية شمولية .
أية جريمة اقترفها السجين ؟ أهي فكرية معترضة أم تنويرية محرِّضة أم ...؟ ومن هي تلك المؤسسة السلطوية التي فرضت الحكم العقابي هنا ؟ أهي سلطة وضعية أم غيبية ؟ ، ثم أهو سجنٌ حقيقي مجسّد في الواقع أم جملة محظورات فكرية تحتل تلافيف الوعي ، قامعة ومغيبة ، لكل ماغ يتضاد مع نظامها الآيدلوجي القمعي ؟
سندرس النص مسترشدين بما وفرته لنا العتبة من مفاتيح قرائية، استخلصناها من تفكيكها ، يستأنف الشاعر قوله :
الارتباك :يعني لاادرية اختيارموقف من فعل او امر ما ، اشارة تقاطعية الدلالة ( يقين / لايقين ) ، موحية برد فعل غير واعٍ على باعث او مسبب ذلك الفعل او الامر ، فما / من ، هو ؟ ( غياب السبب )
صَدَّى قَلبي يَتلَاشىى
تلاشي النبض : اشارة الى انفعالية لاارادية ( لاشعورية / من الآثار السايكولوجية السجنية على السجين هيمنة اللاشعور على الشعور المنسحب بفعل عدم انسجاميته الزمكانية مع الواقع المعاش ( السجن / المنفى )
في صَمتٍ عَميقٍ
الصمت اشارة ل(غياب ) الصوت ، فمن المُغَيِّب ؟ و ( عميق ) اشارة للبعد الشاقولي / الموغل في امتداده التحتاني , فأي عمق ؟؟ ولما كان الصمت اشارة حسية الدلالة ، فلابد ان تكون صفته ( عميق ) ذات نفس الدلالة ( الصفة تتبع الموصوف ) ، تراه صمت قابع في اعماق الذات ؟
أَكَادُ اسْقطُ أَرضا
وهو سقوط ذو مدلول ( لغوي ) فالاشارة ( ارضاً ) سلبته مدلوله الاصطلاحي ، اشارة الى احتدام ( التصارع اللاشعوري ) الذي قد يفضي الى فقدان التوازن ( الفكر/ حسي ) ،
كَأَنّي مَخْمورٌ يتأَمَّلُ
الاشارة ( مخمور ) دالة على تغييب الوعي ، وهي متقاطعة مع الاشارة ( يتأمل) / وجود وعي ، دلالة ، مع مما يعني ان ( مخمور ) دال متحول ( من نتائج التفكيك اعلاه ) اي : ان كل من غُيٍّبَ وعيه يبدو كالمخمور ،
قمَرًا بِلَّوريا لَمْ يَكْتَمِلْ
القمر اشارة لطارد الظلام ( النور ) ، و( لم يكنمل ) اشارة كاشفة ل( يتأمل ) ، اي انها كشفت سر التأمل إياه ، فمصدر النور ( قد يكون فكرة تضيء العقول الغافلة او الجاهلة ) لم يكتمل بعد ( ايحاء بوجود مانع ضوئي / المؤسسة السلطوية ، يحول دون اكتمال منتج تلك الفكرة / الوعي )
التحليل القرائي : عطفاً على تشريح العتبة ، البداية الفعلية للنص ( ارتباك ) اشارة غيابية ، تلتها عدة اشارات مماثلة ، توحي بوجود ( فاعل / مسبب ، مستتر ) داخلي الوجود ( في الذات الواعية ) ، بتحكم بوجوده الخارجي ، يفقده اتزانه و يتهدده بالسقوط ، والمقاربة القراءئية له : الرقيب القامع للوعي / سجان الوعي .
ويمضي الشاعر في قوله :
رُمِيْتُ كَخرقةٍ عَتِيقَةٍ
فِي طَرِيق
تُسْحَقُ
دُونَ اِنْتِبَاه
اشارة الرمي دلالتها التغير المكاني للشيء المرمي وهي تكافيء الطرد ، النبذ ، الازاحة
و اشارة السحق دلالتها الإفناء الوجودي، ومكافؤها الإعدام والقتل ، وهما اشارتان لوجود فاعلَين مجهولَين ، أو مسكوت عنهما لسبب اضطراري ،
اما الاشارة غير المعرفة ( طريق )، فدلالتها الدرب الخارجي مدنياً ( تسبة الى مدينة ) ، فالطرقات داخل المدن تكون معروفة الاتجاهات ( من ـ الى ) ، ولها اسماء وارقام محددة ، والمقاربة الدلالية هنا : طريق النفي ، فهذه تكون بلامح او وجهة محددة ( من ـ لا الى )، وهو نفي مكاني ( نبذ للمهجر ، او انساني ( يكون الحُرُّ منفياً في عزلته )
والنبذ ( الرمي )، و الإفناء الوجودي ( السحق ) ، واقعان على نائب فاعلهما المشترك ( تاء المتكلم في الفعل الاول ، والضمير المستتر / هي، في الفعل الثاني) بدلالة (كاف التشبيه ) في ( كخرقة ) وهذه بدورها اشارة الى جُزَئية مادية عدمية النفع ، ميؤوس من فائدتها ( عتيقة ) ،و هي منتزعة من نسيج مادي ( بعض من كل ) مقاربتها : كيان انساني فردي ( جزء من نسيج انساني / مجتمع ) معطوب الفائدة بدلالة ( تسحق ) ، فالخِرقُ تُمزّق أوتحرق ، وترمى في حاويات القمامة ، أما الرمي ( الطرد او النبذ ) في طريق النفي ، والسحق الإفنائي ، فيكون لإنسان عديم او متقاطع النفع مع مؤسسة تمتلك ( سلطوياً ) هذا القرار العقوباتي القمعي بحقه ، دون أن يثير هذا اهتمام احد ( دون انتباه ) ، أما مخافة ( من غضب تلك المؤسسة عليه ) أو انسياق وراء ( قدسيتها ) وبالتالي ففعلها ذاك صحيح ( فهي معصومة عن الزلل ) لايجوز الاعتراض عليه .
التحليل القرائي : استكمالاً لما جاء في التحليل الاول ، الفاعل المستتر يفرض ارادته بالإزاحة ( التغييب المكاني ) والإفناء (التغييب الزماني ) ، على من يتضاد معه رأياً او موقفاً في امر ما ( فهو يعتبره معدوم النفع ) ، فهو اذاً رقيب مؤسساتي ( يملك القوة العقابية ) ، وفعله هذا مبررٌ فلا يثير انتباه احد ( من الجمهور ) ، ويسترسل الشاعر قائلاً :
أَرغبُ
الرغبة اشارة حاجاتية معتملة في دواخل الراغب ،تبحث عن اشباع
في الصُّرَاخ..
أَوْ الْفرار
اشارة الصراخ ، دلالتها : حضورية مكانية إحتجاجية على أمرٍ مرفوض أو ألم ، ودلالة اشارة الفرار : هروب ، غيابية مكانية بحثاً عن أمان ، والاشارتان متضادتان إيهامياً بدلالة ( أو العاطفة التشكيكية ) / المقاربة : ترددية موقفية ،
القراءة التحليلية : صوت ( الأنا / صاحب الفكر ) يدل على ( فردانية ) ، مقابل آخر جمعي مؤسساتي سلطوي ، / عدم تكافئية قُدراتية ، مما تسبب في حيرته الإختيارية بين مواجهة ذلك القامع الأقوى المعاقِب ( بالرمي ) و( السحق) ، و الهروب الخلاصي ، والحيرة شعور انساني مألوف ، والقصدية الدلالية لها : المفكر الواعي في النهاية انسان
الصَّمتُ
إشارة تأكيدية لماقبلها ( صمت عميق ) ،للدلالة على رسوخ حضور الغائب صوتياً
يُنْذرُ بخطر أجهلُ هويتَه
الإشارة ( ينذر ) توحي بفاعلية ذاك الحضور رغم استتاره ( الصمت فاعل مستترلفعل الإنذار ) ، ودلالتها : السطوة القرارية / المكافيء : سلطة امتلاك قوة القرار بإلحاق الضرر ( خطر ) ، وذلك ( الغائب صوتياً / الحاضر فعلياً ، هو عاقل ( مؤسسة حسب القراءة الثانية آنفاً ) بدلالة ( هويته ) فالهُوية : اشارة مركبة من [ هُو ( آخر عاقل ) + ياء النسب + تاء التأنيث ] ، ولأن الفاعل مستتر ، مؤسسي السطوة ، متعدد القرار ، فالشاعر لايعرف تقدير ( أجهل ) مدى ضرره عليه .
الاشارة ( ضوء ) العلوية المكان ( فوق الاسطح )، و( خجول ) بمدلوله : الشعور باللاكمال ،/ بنية دلالية يقابلها ( قمر لم يكنمل ) المذكورة آنفاً
ينام : دلالة خمود الحركة / ينساب: دلالة حركية ، الاشارتان متضادتان توحيان بانتشارية فاعلهما ( الضوء ) فهو وان كان في مكان محدد الا ان آثاره منتشرة في كل الجوانب من حوله / المقاربة الدلالية : الفكرة النيرة فهي وان كانت موجودة في ( العقل ) الّا ان أثرها ( تأتيرها ) في وعي الاخرين ، يمتد الى كل من يتعرف عليها رغم البعد المكاني بينهما ، وان بعد حين ( ببطء )
فَوقَ أَطلالِ الأسْوارِ العَتيقَةِ
اطلال ، اشارة لبقايا اثر إمّحت معالمه وانتهى زمنه / مكافؤها الشيء الماقبلي السلفي ، الاسوار ، اشارة لحواجز( مادية كالجدران / حسية كالمحرمات الفكرية وغيرها ) شاقولية ( غائرة في الاعماق ومندفعة علواً ) محيطة بمكان ( مادي كالسجن / حسي كالمنفى الفكري ) ، وتعزله عما هو خارجه ، عتيقة ، اشارة تأكيدية لقِدم الاطلال ،
القراءة التحليلية : الفكرة النيرة تفضحُ قَدَم ولا تناسبية زمن الحواجز العقلية البالية ( افكار المؤسسة المتوارثة كمقدسات مغروسة في وعي الجمهور ) ، مع الوقت الحاضر ، حواجز تعزل الوعي عن (تقبُّل / تقدبم ) الافكار التعارضية مع تلك المؤسساتية ، لكن الافكار بدلالتها الانتشارية ، تمتد متجاوزةً تلك الحواجز .
وتستمر انكشافية اشارات النص كلما توغلنا في متنه وبين تصاعدية بنائه الحدّثي ، لاسيما ان العتبة ( مطامير ) تمثل مرسلة خطابية، تتفق دلالتها المعنوية كما مر بنا ، على الايحاء بمفهوم ( الفقد / الالغاء الوجودي ) ،
فنراه يقول :
يترك اشارة الى أثرٍ مخّلَّف من عنديات فاعل ما ، ولما كان الضوء هو فاعل ( يترك )، فإن أثره ( بقع ) من عندياته فهي اذاً بقعٌ ضوئية / مقاربتها مصادر للفكرة النيرة ، و الاشارة (مخيفة ) دلالتها توقع الضرر لأنها مسببة لعقاب المؤسسة إياه .
فِي رَأْسيْ
الرأس اشارة لمكان الوعي
القراءة المعنوية : سبب الفضيحة هنا ان الشاعر آمن بالفكرة النيرة المحظورة مؤسساتياً ، وايمانه بها وان كان داخلياً ( في اعماق وعيه ) الا ان صدقية ذلك الايمان انعكس على موقفه الحياتي المعلن بارادته او بغير ارادته ، وهذا الاعلان فضحه لدى تلك المؤسسة ، مما يحتم عليها معاقبته ( دلالةالفضيحة: امر منكر يتم كشفه ويوجب العقاب عليه )
صَوَّتٌ يُطارِدُني..يَصْطادُني في كُلِّ همسةٍ
انكشف مسبب الصمت وخرج عن سكوته وصار له صوته القامع ( الرقيب )، بدلالة ( يطاردني / يلاحقني ) ، (يصطادني،/ يأسرني) مع ( كل همسة / دلالة على ملازمة الرقيب اياه ) فهو يستشعر فيها صدى لتلك الفكرة المهددة لمؤسسته )
القير اشارة كاشفة لدلالة ( المطمورة ) وهو قبر الاحياء كما اسلفت
مَطَامِيرٌ بِذَاتِ السَّجَّان.. مَعَ
السجان المحدد الذاتوية هنا ، اشارة لرقيب المؤسسة القديمة الكينونة في الوعي الجمعي
هَزَائِم.. // نتائج خائبة لحرب ما ، مقاربتها محاربة المؤسسة
دَينٌ أَزَلَّيٌّ.. // اشارة الى التبعية الابدية لسطلة تلك المؤسسة
عِوَاء..// اشارة لحراس المؤسسة ( اختزالية تشبيهية )
ليسَت سِوى طَرِيقٌ واحدة // اشارة تأكيدية لدرب المنفى
اشارة مؤكدة لتكرار النفي / مقاربتها الدلالية : تكرار محاولة التمرد على احكام المؤسسة
الطَّرِيقُ تَسْرِقُنَّي
بعد ان فضحت سيرورة الحدث النصي دلالة (طريق ) / النفي ،اصبح معروفاً وخرج عن تنكيره بتعريفه ( بأل ) ، بل وراح الشاعر يجهر بتلك الدلالة فيخبر عنها انها ( تسرقني )
القراءة التحليلية : لان وعي الشاعر حر ، فقد تقبل الفكرة النيرة ، وفضحه ايمانه بها حد انتباه السجان المؤسساتي ، فراح يلاحقه ليوقع عليه العقوبة ، ويرميه على قارعة طريقي النفي لتسرقه من وجوده الانساني
تصاعدية النص الحدّثية تبدأ بالهبوط ، دلالة على الاعياء و الوهن اللذين اصابا حامل الفكرة التضادية للمؤسسة، فهو فرد يجالدها وحيداً / لايملك سلاحاً الا وعيه ، وتلك سلطوية شمولية مدججة بأسلحة الإفناء والمحو الوجودي ، والنفي والتغييب ، لذا نجد الشاعر يقول :
خذني أَيُّها المللُ
ما ابْذُلهُ ضِدّ إرادتي يُوَازِي هَذَا الْكِبْرِيَاءَ
مِنَ الْحِجَارَةِأَصْنَعُ نَفْسي
مِنَ الْمَخَاوِفِ أَقْدُسُ الْآلِهَةَ
أَيُّ وَهُمْ بَعْدَ الْآنَ
لَا يَسْتَحِقَّ الْجَلَاَلُ
لَا نَوَرُ فِي موَائد الْمَلَاَئِكَةِ
اشارتا ( الآلهة ، الملائكة ) كاشفتان ، دلالتنان على ( سلطة غيبية )، وقد كشفتا ماهية تلك المؤسسة السلطوية المهيمنة على الفكر ، لكنها مزيفة ( اي وهم ) ، مطفأة القلب ( لانور في موائد الملائكة / رمز الرحمة وهذه موضعها القلب )
ويسترسل الشاعر قائلاً :
كنت أجددُ محوي /
الاشارة (الذاكرة) دلالتها حضورية آثار مافات زمانياً من افعال او وقائع ، في الوعي / اللاوعي المكافيء المعنوي : عدم مفارقة ماخلّقه فعل / افعال ، من آثار في النفس ، المحو اشارة إزالاتية لشيء او اثر ما / المقاربة الدلالية : عدم مفارقة الآثار التي خلفها جلاده للمؤسسة في نفسه ، رغم تكرار محاولاته في محوها
اليومُ بعد اليوم ِ
الاشارة ( الاعماق ) كاشفة تأكيدية لهيمنة تلك المؤسسة الغيبة على اعماق الوعي وشدة رقابيتها لكل من يدنو من سلطانها ، ونبذها اياه ( رصدتُ كجلد متعفن )
من سفالاتِ البطولةِ وشجاعةِ العقارب / اشارة خوائية لحقيقة مجد تلك المؤسسة
الاشارة ( حتماً ) دلالتها: الإلزام بالشيء و وجوبه ، الفعل الماضي رقد ( نام او سكن / من السكون ) اشارة ماقبلية لاتلغي الحاضر او المستقبل ، ( ابداً ) اشارة تأكيدية للمستقبل تضادية مع ماضوية ( رقدت ) / المقاربة : انتصار الشاعر لوعيه الحر، فان كان نومه / غياب الوعي ، قد أوجبته عليه تلك المؤسسة الغيبية ، فمستقبل تحقق فكرته النيرة مؤكد .
بذا استطعنا قراءة هذا النص المشفَّر بذكاء وحنكة ، قراءة تحليلية منطلقين مما وفرته لنا العتبة من مفاتيح دلالية ، ومقاربات استدلالية ، يسّرت علينا تفكيك شيفراته ، وتشريح سيميائيته الدلالية ، بلا اسقاطات دوغمائية من عندياتنا المعرفية الماقبلية ، بل بموضوعية متفاعلة ومتحاورة مع اشاراته ومرسلاته الخطابية ، مما مكننا من المشاركة في ( انتاج ) معناه النهائي . نص انما يدلل دلالة كبيرة على روعة الشاعر مهدي ، ومهارة لغته الشعرية ، وتمكنه الواعي من ادواته التعبيرية ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ/ باسم عبد الكريم الفضلي ـ العراق
0 التعليقات:
إرسال تعليق